أصبوحة 180

لأن القراءة ضرورة وليست هواية

معضلة الشر جدلٌ فلسفي حسمه الدين

كاتب المقال: رجاء الغيثي

2022-12-12



كثيرًا ما نسمع عن أحداث تدمي القلب، وتقض مضاجع الكثيرين إما تعاطفًا أو خوفا من حدوثها لنا. وقد نمر بتجارب تبدو لنا غير عادلة وقاسية، وقد يتساءل البعض لم توجد الكوارث كالفيضانات والحرائق؟ كل تلك الأحداث والتجارب المؤذية يطلق عليها اصطلاحًا الشر، فما الشر؟ ولماذا وجد؟ وما الحكمة منه؟

سنتعرف على كل ذلك من خلال هذا المقال، لكن قبل ذلك يجب الانطلاق من قاعدتين مهمتين نقيس عليهما الموضوع من كل زواياه.

أولًا: يجب أن نعرف أن الله خالق كل شيء؛ الإنسان وأفعاله، الخير والشر، الأقدار، الكون بدقته وانضباطه، قال تعالى: (والله خلقكم وما تعملون).

ثانيًا: الجدير بالذكر أنه لا يوجد خير خالص ولا شر خالص، يقول ابن القيم: «الشر نوعان: شر محض حقيقي من كل وجه، وشر نسبي إضافي من وجه دون وجه، فالأول لا يدخل في الوجود، إذ لو دخل في الوجود لم يكن شرًّا محضًا، والثاني هو الذي يدخل في الوجود» وهناك الكثير من الأمثلة التي تثبت ذلك، فكم من حدث قد بدا لنا أنه شر ثم تحقق من ورائه خير عظيم، وكم من شيء سعينا له ظنًّا منا أنه خير واتضح أنه ينطوي على شر عظيم.

ما الشر وما الحكمة من وجوده؟
الشر هو مصطلح يستخدم للإشارة إلى الجوانب السلبية في تفكير بني البشر وسلوكهم. فهذه المعضلة ليست وليدة اللحظة أو حديثة نسبيًّا، فقد شكّلت جدالًا فكريًّا وفلسفيًّا على مر التاريخ، حتى جاء الدين وحسم الجدال مستندًا على مقدمات عقلية وإيمانية.

والملحدون هم أول من أثار هذه القضية، يقول الفيلسوف «أبيقور»: «إن وجود الشر يقتضي عدم وجود الله»، ووفقًا لهذه المقدمة الخاطئة ولهذا المعيار الواهي نفهم أن وجود الخير يقتضي وجود إله أيضًا، فلا أحد ينكر وجود الخير في هذا العالم بل قد يكون أكثر من الشر،بل هو الأصل في هذه الدنيا والشر حدث عرضي قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا تحدده حكمة الله سبحانه.

وبعد الحرب العالمية الثانية التي خلّفت ملايين القتلى والدمار، زاد اهتمام الفلاسفة الملحدين بمعضلة الشر، محاولين تفسير كل تلك الكوارث التي اقترفتها أيادي البشر وبمحض إرادتهم. لكن كعادتهم يتحدثون ولا يقدمون شيئًا سوى الأسئلة، فهم ينسبون كل شيء للطبيعة «المادة» التي في نظرهم محايدة عن الخير والشر والأخلاق، فإذا كان الإنسان ابن الطبيعة كما يدعون لماذا لم يكن هو الآخر محايدًا؟ وكشف «ريتشارد دوكينز» مدى تخبطهم عندما قال: «من الصعب علينا الإقرار بأن الأمور خيرة أو شريرة، ليست رحيمة أو شرسة، إنها لا مبالية بآلام الإنسان، إذ ليس لدى الطبيعة هدف». وهذا ما يفسر رقص الفيلسوف الملحد «نيتشه» ليلة إعصار فيجي الذي خلّف الكثير من الضحايا مستندًا على مبدأ حياد الطبيعة وأن الذين ماتوا ضعفاء لا يستحقون الحياة.

وبعض الديانات كالزرادشتية لجأت إلى اعتناق فكرة ضحلة مفادها أن للكون إلهين، إله الخير وآخر للشر، و هذه الفكرة تنم عن قصور عقلي في فهم محيطنا، وما يبدد هذا المعتقد هو انضباط الكون، فاستمراره بلا خلل أو تعطل يؤدي إلى معنى واحد وهو أن له خالقًا واحدًا لا شريك له، فلو فرضنا وجود إلهين متناقضين، لما لم نرَ محاولات للإستحواذ على الكون من قبل أحدهما؟، وهذا المعنى ثبت بنص قرآني واضح، قال تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ).
المعتزلة؛ وهم من الفرق التي وصل بهم الأمر إلى إنكار خلق الله لأفعالنا، وهو قول باطل لأنه يُسقط الكثير من المفاهيم المهمة والمذكورة نصًّا في القرآن، أيضاً فيه تعدٍّ على ذات الله سبحانه، فلو فرضنا أنهم على حق هذا يعني أن هناك أشياء في ملك الله لا تخضع لقدرته وهذا عجز ننزه الله سبحانه وتعالى عنه.
الحكمة من خلق الله للشر
١- بلا شر لا معنى للإرادة الحرة التي منحها الله للإنسان، ومكّنه من الاختيار بين الخير والشر، ومنحه العقل للتمييز، فبدون وجود الشر يصبح الإنسان مسيرًا لا مخيرًا، فما الحكمة إذا من وجود الثواب، والحساب والعقاب، الجنة والنار، وخاصة أن أغلب الشرور في العالم هي شرور أخلاقية يقوم بها الإنسان باختياره وبكامل إرادته.

٢- الأشياء تعرف بضدها؛ فلولا الشر لما عرفنا الخير، بل إن الكثير من الأخلاق والقيم ستصبح بلا معنى، فما قيمة الصدق بدون الكذب، وما قيمة الطُهر والعفاف بدون الزنا، وما قيمة الاستقامة بدون الضلال. يقول أبو عثمان الجاحظ: «اعلم أن المصلحة في أمر ابتداء الدنيا إلى انقضاء مدتها هو امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع، والمكروه بالسار، والضعة بالرفعة، والكثرة بالقلة، ولو كان الشر صرفًا هلك الخلق، أو كان الخير صرفًا سقطت المِحنة، وتقطعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز».
وختامًا… يجب أن نفهم أننا ملك الخالق ونعيش في ملكه، ومن تصرف في ملكه ما ظلم، وسيبدو الشر مخلوقًا غير مستساغ إذا نظرنا إليه برؤية عاطفية، ولكن لو اعتمدنا على العقل والإيمان في فهمه سنصل إلى إجابات شافية يطمئن بها كل باحثٍ عن الحقيقة.

تنويه:

المقال يعبر عن رأي كاتبه فقط، وليس بالضرورة عن رأي المشروع أو الصفحة.

مشاركة المقال